سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} موسى عليه السلام في توبيخ السامري: {فما خطبُك يا سامريُّ} أي: ما شأنك، وما مطلوبك فميا فعلتَ من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك؛ ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم من بعده، {قال} السامري في جوابه: {بَصُرْتُ بما لم يَبْصُرُوا به} أي: علمت ما لم يعلمه القوم، وفطِنت لما لم يفطنوا به، أو رأيتُ ما لم يروه، وهذا أنسب، وقد كان رأى جبريل عليه السلام، جاء راكبًا فرسًا، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس، اخضر ما تحت قدمه بالنبات، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب. وذلك قوله تعالى: {فقبضتُ قبضةً من أَثَرِ الرسولِ} أي: أثر فرس الرسول، وهو جبريل، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال في اللباب: كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس، وقد دخل البحر فانفلق، فأخذ من أثره، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. اهـ. وقال قتادة: كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها: سامرة، ولكن عدو الله نافق، بعدما قطع البحرَ مع بني إسرائيل، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكفون على أصنام لهم، وكانوا يعبدون البقر، {قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعرَاف: 138]. فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. اهـ.
وقال الكواشي: وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس؛ لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان، فوضعته في كهف؛ حذرًا عليه، فبعث الله تعالى جبريل؛ ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة. اهـ. وضعّفه ابن عطية. قلت: ولعل تضعيفه من جهة النقل، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
ثم قال: فأخذت تلك القبضة {فنبذتُها} في فم تلك الصورة المذابة من الحُليّ، فصارت تخور، {وكذلك سَوَّلَتْ لي نفسي}؛ أي: زينت. والإشارة: نعت لمصدر محذوف، أي: سَوَّلَتْ لي نفسي تسويلاً كائنًا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي، فند ذلك {قال} له موسى عليه السلام: {فاذهبْ} أي: اخرج من بين الناس، {فإِنَّ لك في الحياة} أي: في مدة حياتك، {أن تقولَ لا مِسَاس} والمعنى: أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية، لا بحسب الاختيار، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد، أو يمسُّ أحدًا، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة، فتحامَى الناسَ وتحاموه، وكان يَصيح بأقصى طوقه: لا مساس.
وقيل: إن موسى عليه السلام نفاه من قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن: (جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة). فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلي بالوسواس، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياه اليوم يقولون ذلك: لا مساس. ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله؛ فإنه سخي. ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة: أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله: {وإِنَّ لك موعدًا} أي: في الآخرة، {لن تُخْلَفه} أي: لن يُخلفك الله ذلك الوعد، بل يُنجزه لك أَلبتةَ، بعد ما عاقبك في الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه، بل لا بد لك من ملاقاته. {وانظر إِلى إِلهك} العجل، {الذي ظَلْتَ عليه عاكفًا}؛ مقيمًا على عبادته، {لنُحَرِّقنه} أي: والله لنحرقنه بالنار، وقيل بالمبْرد، مبالغةً في الحرق، ويعضده قراءة: {لنحْرُقنه}، {ثم لنَنْسِفَنَّه} أي: لنذرينه بالريح {في اليمِّ}؛ في البحر، رمادًا، أو مبرودًا كأنه هباء، {نَسْفًا} بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به؛ تنبيهًا على كمال ظهوره، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين.
ثم نبَّه على الحق فقال: {إِنما إِلهُكم الله} أي: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة: استئنافية مسوقة لتحقيق الحق، إثر إبطال الباطل، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل، ثم وصفه بقوله: {الذي لا إِله إِلا هو} وحده، من غير أن يُشاركه في الألوهية شيء من الأشياء، {وَسِعَ كل شيءٍ علمًا} أي: وسع علمه كل ما من شأنه أن يُعلم. وجملة: {وسع}: بدل من الصلة، أي: إنما إلهكم: الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنًا ما كان، فيدخل فيه العجل دخولاً أوليًا. وهذا ختم كلام موسى عليه السلام، بتقرير أمر التوحيد، كما كان افتتاح الوحي إليه به بقوله: {إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر أثر حافر فرس جبريل: كيف حييت به الأشباح، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله، أو بتقبيل أقدامهم، بل كل من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه، وشعشعت أنواره، وتحقق عرفانه، كما هو معلوم؛ لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله؛ لأنهم يدلون على الله، ويبعدون عن كل ما سواه. وانظر السامري؛ حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد، حتى صار مثلاً في الناس. فقالت الصوفية: ينبغي للفقير أن يفر من أبناء جنسه، ويكون كالسامريِ، إذا رأى أحدًا قال: لا مساس، وأنشدوا:
وخَفْ أبناءَ جنسك واخش منهم *** كما تخشى الضراغم والسُّنْبَتا
وخالِطْهم وزايلهم حِذارًا *** وكن كالسامري إذا لُمِسْتَ
والسنبتاء: كل حيوان جريء، وقيل: اسم للنمر.
ويقال، لمن ركن إلى شيء دون الله تعالى؛ مِنْ علم، أو عمل، أو حال، أو مقام، أو فني في مخلوق: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا لنُحرقنه ثم لننسفنّه في اليم نسفًا). وفي بعض الأثر: يقول الله: «يا عبدي، لا تركْن لشيء دوني، فإنْ ركنتَ إلى علم جهّلناك فيه، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى حال وقفناك معه، وإن ركنتَ إلى معرفة نكرناها عليك. فأي حيلة لك أيها العبد، فكن لنا عبدًا أكن لك ربًّا» أو كما قال. وإليه الإشارة بقوله: {إنما إلهكم الله...} الآية.


{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ...}
قلت: محل الكاف: نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك قصًا مثل ذلك القص المارّ. وما في الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو درجته- عليه الصلاة والسلام- وبُعد منزلته في الفضل. و{من أنباء}: في محل النصب، إما على أنه مفعول {نقُصّ}؛ باعتبار معناه، أي: نقص عليك بعض أنباء، وإما على أنه متعلق بمحذوف؛ صفة للمفعول، أي: نقص عليك خبرًا كائنًا من أخبار ما قد سبق.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {كذلك} أي: مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته {نقصُّ عليك من أنباء ما قد سبق} أي: من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية؛ ليكون تبصرة لك، وزيادة في علمك، وتذكيرًا لغيرك، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتي بعدك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حكايات الصالحين وسِيَر العارفين جند من جنود القلب، فيها تنشيط لمن يريد اللحوق بهم، وتشويق لمقاماتهم، وتسلية لمن يُصاب في ذات الله بمثل ما أصابهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد مَن أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان، فقال: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} قلت: {مَن أعرض}: شرطية أو موصولة، وعلى كلٍّ فهي صفة لذِكْرًا، و{خالدين}: حال من فاعل {يحمل}، أو الجمع، باعتبار معنى {مَن}، و{حِمْلاً}: تمييز، تفسير لضمير {ساء}، والمخصوص محذوف، أي: ساء حملاً وزرهم، و{يوم يُنفخ}: بدل من {يوم القيامة}، أو منصوب باذكر. و{يتخافتون}: استئناف مُبين لحالهم يومئذ، أو حال أخرى من {المجرمين}. و{قاعًا}: حال من ضمير {يذرها}، أو مفعول ثان ليذر. و{صفصفًا}: حال ثانية، أو بدل من المفعول الثاني، وجملة: {لا ترى}: استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف، أو حال أخرى، و{يومئذ}: ظرف ليتبعون، أو بدل من {يوم القيامة}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقد آتيناك} يا محمد {من لَّدُنا}؛ خصوص عنديتنا {ذِكْرًا} عظيمًا وقرآنا كريمًا، جامعًا لكل كمال، مُخبرًا بعجائب القصص والأمثال.
{مَنْ أعْرَضَ عنه} أي: عن ذلك الذِكْر العظيم الشأن، المستتبع لسعادة الدارين، بأن لم يؤمن به، {فإِنه يحملُ يومَ القيامة وِزْرًا} أي: عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنوبه. وتسميتها وزرًا لتشبيهها في ثقلها على المعاقَب، وصعوبة احتمالها، بالحمل الذي يُثقل الحامل ويُنقِضُ ظهره، وقيل: يُجسّم، ويُجعل على ظهره في طريق الحشر، والأول أنسب لقوله: {خالدين فيه} أي: في ذلك الوزر، وهو العذاب، أو في ذلك الحمل الثقيل؛ لاستمراره فيه بعد دخول النار، {وساء لهم يوم القيامة حِمْلاً} أي: بئس حملهم هذا يوم القيامة، وإعادة يوم القيامة؛ لزيادة التهويل.
{يوم يُنفخُ في الصُّور} أي: ذلك اليوم هو يوم يُنفخ في الصور، أو: اذكر يوم ينفخ في الصور نفخة البعث، {ونَحشُر المجرمين} أي: المشركين {يومئذٍ} أي: يوم ينفخ في الصور، وأعاده، تهويلاً، حَال كونهم {زُرقًا} أي: زُرق العُيون. وإنما جُعلوا كذلك؛ لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، وكانت تتشاءم بزرقة العين، كما قال الشاعر:
لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاكَ يا ابْنَ مُكَعْبَرٍ *** أَلاَ كُلُّ ضَبِّيِّ مِنَ اللؤْم أزرقُ
وقيل زرقًا، أي: عُميًا؛ لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى. وقيل: عِطاشًا؛ لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويرزق.
{يَتخَافَتُون بينهم} أي: يخفضون أصواتهم ويخفونها؛ لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول. يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض: {إِن لبثتم إِلا عَشْرًا} أي: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها، لزوالها، أو لتأسفهم عليها، لما شهدوا الشدائد والأهوال، أو في القبر، وهو الأنسب بحالهم، فإنهم، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك؛ اعترافًا به، وتحقيقًا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة. وقيل: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة. رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون.
قال تعالى: {نحن أعلم بما يقولون}، وهو مدة لبثهم، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه، {إِذْ يقولُ أمثلُهم طريقةً} أي: أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً: {إِن لبثتم إلا يومًا}، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم: استرجاع منه تعالى، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول.
{ويسألونك عن الجبال} أي: عن مآل أمرها، وقد سأل عنها رجل من ثقيف، وقيل: مشركو مكة، على طريق الاستهزاء، {فقلْ} لهم: {يَنْسِفُهَا ربي نَسْفًا} أي: يجعلها كالرمل، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور، {فيَذرُها} أي: يترك ما كان تحتها من الأرض {قاعًا صفصفًا} أي: أرضًا مستوية؛ لأن الجبال إذا سُويت، وجُعل سطحها مساويًا لسائر أجزاء الأرض، فقد جعل الكل سطْحًا واحدًا.
فالضمير في {يذرها} إما للجبال، باعتبار أجزائها السافلة، الباقية بعد النسف، وهي مقارها ومراكزها، وإما للأرض، المدلول عليها بقرينة الحال؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال.
والقاع والقيعة: ما استوى من الأرض وصلُب، وقيل: السهل، وقيل: ما لا نبات فيه. والصفصف: الأرض المستوية الملساء، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة، {لا ترى فيها} أي: في الأرض الذي نسفت جبالُها {عِوَجًا} أي: اعوجاجًا وانخفاضًا، {ولا أمْتًا}؛ نتوءًا وارتفاعًا. قال ابن عباس: العوج: الأودية، والأمت: الروابي. وقال مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع؛ والمعنى: أنك، إن تأملت بالمقاييس الهندسية، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.
{يومئذ} أي: يوم إذ نسفت الجبال، {يتبعون الداعيَ} أي: يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر، وهو إسرافيل عليه السلام، يدعو الناس بعد النفخة الثانية، قائمًا على صخرة بيت المقدس: أيها الناس هلموا إلى ربكم، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم، قائلاً: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتمزقة، واللحوم المتفرقة؛ قوموا إلى العرض والحساب، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين، كأنهم جراد منتشر، لا يدرون أين يذهبون، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى: {لا عِوَجَ له} أي: لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه، فلا يزيغ عنه، بل كلهم يقصدون صوته، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير: لا عوج للصوت عن أحد، بل يصل إليه أينما كان، ويتوجه إليه حيث كان، {وخشعتِ الأصواتُ للرحمن} أي: خضعت وسكنت لهيبته {فلا تسمع إلا همسًا} أي: صوتًا خفيًا. والهمس: صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر، أي، انقطعت أصوات اللسان، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر، من شدة الهيبة والخوف.
{يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة} أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد، {إِلا من أَذِنَ له الرحمن} في الشفاعة، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، {وَرَضِيَ له قولاً} أي: ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل: {ورضي له قولاً} في الدنيا، وهو: لا إله إلا الله، مخلصًا من قلبه... أو: إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه، ورضي لأجله قولاً من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع، وإن وقعت؛ لقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدَّثِّر: 48]. {يعلم ما بين أيديهم} أي: ما تقدمهم من الأحوال، أو من أمر الدنيا، {وما خلفهم}: وما بعدهم مما يستقبلونه، أو من أمر الآخرة، {ولا يُحيطون به علمًا} أي: لا تُحيط علومهم بذاته المقدسة، بحيث يدركون كنه الربوبية، أو: لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري: الكناية في قوله: {به}، يحتمل أن تعود إلى {ما بين أيديهم وما خلفهم}، ويحتمل أن تعود إلى الحقِّ- سبحانه- وهو طريقة السَّلفَ، يقولون: يُعلَم الحق ولا يحيط به العلم، كما قالوا: إنه يُرى ولا يُدْرَك. اهـ.
الإشارة: وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا، أي: قرآنًا يجمع القلوبَ على الله، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه- أي: عن الله- ولم يتوجه إليه بكليته، فإنه يحمل وِزرًا، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيُكرم المتقين، ويُهين المجرمين، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
ويسألونك، أيها العارف، عن جبال العقل، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان، فقل ينسفها ربي نسفًا، فيذر أرض النفس، حين استولت عليها أسرار المعاني، قاعًا صفصفًا، لاتصالها بفضاء المعاني، حين ذهبت أغيار الأواني، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. وإنما ترى وجودًا متصلاً، وبحرًا طامسًا، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب، ولا علو ولا سفل، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَن أبصر الخلق كالسرابِ *** فقد ترقى عن الحجابِ
إلى وجود تراه رَتْقًا *** بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه *** هناك يُهدى إلى الصواب
فلا خطاب به إليه *** ولا مشير إلى الخطاب
والمراد بالخلق: جميع الكائنات، فلا خطاب من العبد إلى ربه، لمحو العبد من شدة القرب، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفي الحِكَم: (ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده). وقالوا: من عرف الله كلّ لسانه، وإليه الإشارة بقوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا}. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته، من غير عوج عنه، ولا خروج عن رأيه، حتى يقول له: ها أنت وربك. فحينئذ تحصل الهيبة والتعظيم، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته، وهو في حضرة الملك الكريم، وهذا شأن الصوفية، كلامهم كله تخافت وتسارر؛ لغلبة الهيبة عليهم.
قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة} أي: في دخول الحضرة، {إلا من أذن له الرحمن} في التربية والترقية، {ورضي له قولاً}، وهو ذكر الله، يأمر به من أراد شفاعته فيه، حتى تستولي عليه أنوار الذكر، فيدخل مع الأحباب، ويجلس على بساط الاقتراب، فحينئذ يحصل له العلم بالله، على نعت الذوق والوجدان، وشهود العيان، لا على نعت الدليل والبرهان.
وقوله تعالى: {ولا يُحيطون به علمًا} إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق لهم تَرَقِّ، وكيف؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا، في هذه الدار وفي تلك الدار! ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات، ما تعجز عنه العقول، وتكِلُّ عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى، ويخوضون في بحار الأحدية، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية، فلا خوف ولا ملل، من غير إحاطة، كما تقدم. والله تعالى أعلم.


قلت: {وقد خاب...} إلخ: استئنافٌ، تعليلُ ما لأجله عنت وجوههم، أو اعتراض، كأنه قيل: خابوا وخسروا، أو حال من الوجوه، و{مَنْ}: عبارة عنها، مُغنية عن ضميرها، أي: خضعت الوجوه، والحال أنها خابت حين حملت ظلمًا. وقيل: {الوجوه} على العموم، فالمعنى حينئذ: وقد خاب من حمل منهم ظلمًا، ومن قرأ: {فلا يخف}: فعلى النهي، وهو جواب، ومن قرأ بالرفع: فعلى الخبر، أي: فهو لا يخاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وعَنَتِ الوجوهُ للحيّ القيّوم} أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى في يد الملك القهار، ومنه قيل للأسير: عانٍ، أي: خاضع ذليل، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
مَليكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمنٌ *** لِعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
ولعلها وجوه المجرمين، كقوله تعالى {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [المُلك: 27]، ويؤيده وصله بقوله: {وقد خابَ من حَمَلَ ظلمًا} أي: وعنت الوجوه؛ لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلمًا.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (خسر من أشرك بالله ولم يتب)، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله: {ومن يعمل من الصالحات...} إلخ، فهو قسيمٌ لقوله: {ومن خاب من حمل ظلمًا}، لا لقوله: {وعنت الوجوه}.
وإذا حملنا {عَنَت} على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا، لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت. ثم فصلهم: فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر، {ومن يعمل من الصالحات} أي: بعضها، {وهو مؤمن}، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات، {فلا يخاف ظُلمًا} أي: منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته، {ولا هضمًا} أي: كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته، وأصل الهضم: النقص والكسر؛ يقال: هضمت لك من حقك، أي: حططت، وهضمت الطعام: حططته إلى أسفل المعدة، وامرأة هضيمة الكشح: أي: ضامرة البطن، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات، لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل، ففيه يتوهم الهضم والنقص، وأما بدونه فلا، نعم الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد، ولو غفر له، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات، كما علم شرعًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا سرحت الفكرة، وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت، وتحققت بعدم الإحاطة، رجعت إلى عش العبودية، وخضعت للحي القيوم، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى، بغلبة الطبع والهوى، وأما من نهض إلى مولاه، واشتغل بالعمال التي تقربه إلى حضرته، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا؛ فإن الله يرفع العبد على قدر همته، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحي والتنزيل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8